الدولة العثمانية-Ottoman Empire
الغازي عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية |
الدولة العثمانية
هي إمبراطورية إسلامية أسسها عثمان
الأول بن أرطغرل، واستمرت قائمة لما يقرب من ٦٠٠
عام، وبالتحديد منذ حوالي ٢٧ عام ١٢٩٩م، حتى ٢٩ أكتوبر عام ١٩٢٣م.
أصل العثمانيون وموطنهم الأول:
ينحدر العثمانيون من قبائل الغز (أوغوز) التركمانية، مع موجة الغارات المغولية تحولوا عن موا
طنهم في منغوليا إلى ناحية الغرب، وقيل انهم ينحدرون إلى حوض دجلة، وايضا قيل أن موطنهم الأصلي كان في أسيا الوسطى في في البوادي الواقعة بين جبال آلطاي شرقا وبحر قزوين غربا .
وقد انقسموا إلى عشائر وقبائل عديدة منها "قاي"
التي نزحت في عهد زعيمها "كندوز ألب" الواقعة شمال غرب أرمينيا قرب مدينة خلاط، عندما استولى المغول على خرسان بقيادة زعيم المغول "جنكيز خان" .
ثم إن الحياة السياسية لهذه العشيرة يكتنفها بعض من الغموض وهي اقرب إلى الأساطير ومنها إلى الحقائق، وكل ما يعرف عنها هو استقرارها في تلك المنطقة لفترة من الزمن، ويستدل على صحة هذا القول عن طريق عدد من الأحجار والقبور التي تعود لأجداد بني عثمان.
ويستفاد من المعلومات المتوافرة أن هذه العشيرة
تركت منطقة خلاط حوالي سنة ١٢٢٩م، تحت ضغط
الأحداث العسكرية التي شهدتها المنطقة، بفعل الحروب
التي أثارها السلطان جلال الدين الخوارزمي وهبطت إلى حوض نهر دجلة.
قيام الدولة العثمانية "١٢٩٩–١٤٥٣م":
توفي "كندز ألب" في العام التالي من نزوح عشيرته إلى حوض دجلة، فترأس العشيرة ولده سليمان، ثم حفيده"أرطغرل" الذي ارتحل مع عشيرته إلى مدينة ارزنجان وكانت ً مسرحا للقتال بين السلاجقة والخوارزميين،فالتحق بخدمة السلطان علاء الدين سلطان قونية،إحدى الإمارات السلجوقية التي تأسست عقب انحلال دولة السلاجقة العظام،وسانده في حروبه ضد الخوارزميين، فكافأه السلطان السلجوقي بأن أقطع عشيرته بعض الأراضي الخصبة بالقرب من مدينة أنقرة.
وظل أرطغرل حليفًا للسلاجقة حتى أقطعه السلطان السلجوقي منطقة في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحدود البيزنطية، في المنطقة المعروفة باسم "سُكُود" او (سوغوت) حول مدينة أسكي شهر، حيث بدأت العشيرة هناك حياة جديدة إلى جانب إمارات تركمانية سبقتها إلى المنطقة، علا شأن أرطغرل لدى السلطان بعد أن أثبت إخلاصه للسلاجقة، وأظهرت عشيرته كفاءة قتالية عالية في كل معركة ووجدت دوما في مقدمة الجيوش وتمّ النصر على يدي أبنائها.
فكافأه السلطان بأن خلع عليه لقب "أوج بكي"، أي محافظ الحدود، اعترافًا بعظم أمره، غير أن أرطغرل كان ذا أطماع سياسية بعيدة، فلم يقنع بهذه المنطقة التي أقطعه إياها السلطان السلجوقي، ولا باللقب الذي ظفر به، ولا بمهمة حراسة الحدود والحفاظ عليها؛ بل شرع يهاجم باسم السلطان ممتلكات البيزنطيين في الأناضول فاستولى على مدينة أسكي شهر وضمها إلى أملاكه، واستطاع أن يوسع أراضيه خلال مدة نصف قرن قضاها كأمير على مقاطعة حدودية، وتوفي في سنة ١٢٨١ عن عمر يُناهز التسعين عامًا، بعد أن خُلع عليه لقب كبير آخر هو "غازي" تقديرًا لفتوحاته وغزواته.
تولّى زعامة الإمارة بعد أرطغرل ابنه البكر عثمان ، فأخلص الولاء للدولة السلجوقية على الرغم مما كانت تتخبط فيه من اضطراب وما كان يتهددها من أخطار.
أظهر عثمان في بداية عهده براعة سياسية في علاقاته مع جيرانه، فعقد تحالفات مع الإمارات التركمانية المجاورة، ووجه نشاطه العسكري نحو الأراضي البيزنطية لاستكمال رسالة دولة سلاجقة الروم بفتح الأراضي البيزنطية كافة، وإدخالها ضمن الأراضي الإسلامية، وشجعه على ذلك حالة الضعف التي دبت في جسم الإمبراطورية البيزنطية وأجهزتها، وانهماكها بالحروب في أوروبا، فأتاح له ذلك سهولة التوسع باتجاه غربي الأناضول، وفي عبور الدردنيل إلى أوروبا الشرقية الجنوبية، ومن الناحية الإدارية، فقد أظهر عثمان مقدرة فائقة في وضع النظم الإدارية لإمارته، بحيث قطع العثمانيون في عهده شوطًا كبيرًا على طريق التحول من نظام القبيلة المتنقلة إلى نظام الإدارة المستقرة، ما ساعدها على توطيد مركزها وتطورها سريعا إلى دولة كبرى.
وقد أبدى السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث تقديره العميق لخدمات عثمان، فمنحه لقب "عثمان غازي حارس الحدود العالي الجاه، عثمان باشا".
أقدم عثمان بعد أن ثبّت أقدامه في إمارته على توسيع حدودها على حساب البيزنطيين، ففي عام 1291م فتح مدينة "قره جه حصار" الواقعة إلى الجنوب من سُكُود، وجعلها قاعدة له، وأمر بإقامة الخطبة باسمه،[35] وهو أول مظهر من مظاهر السيادة والسلطة، ومنها قاد عشيرته إلى بحر مرمرة والبحر الأسود، وحين تغلب المغول على دولة قونية السلجوقية، سارع عثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة ولقّب نفسه "پاديشاه آل عثمان" أي عاهل آل عثمان، فكان بذلك المؤسس الحقيقي لهذه الدولة التركية الكبرى التي نُسبت إليه لاحقا.
وظلّ عثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سلطانًا مستقلاً حتى تاريخ 6 أبريل سنة 1326م، الموافق فيه 2 جمادى الأولى سنة 726هـ، عندما احتل ابنه "أورخان" مدينة بورصة الواقعة على مقربة من بحر مرمرة، وفي هذه السنة توفي عثمان عن عمر يناهز السبعين عاما، بعد أن وضع أسس الدولة ومهد لها درب النمو والازدهار، وخُلع عليه لقب آخر هو "قره عثمان"، وهو يعني "عثمان الأسود" باللغة التركية الحديثة، لكن يُقصد به "الشجاع" أو "الكبير" أو "العظيم" في التركية العثمانية.
السلطان الغازي أوروخان الأول:
عُني أورخان بتنظيم مملكته تنظيمًا محكمًا، فقسمها إلى سناجق أو ولايات، وجعل من بورصة عاصمةً لها، وضرب النقود باسمه، ونظّم الجيش، فألّف فرقًا من الفرسان النظاميين، وأنشأ من الفتيان المسيحيين الروم والأوروبيين الذين جمعهم من مختلف الأنحاء جيشًا قويًا عُرف بجيش الإنكشارية.
وقد درّب أورخان هؤلاء الفتيان تدريبا صارما وخصّهم بامتيازات كبيرة، فتعلقوا بشخصه وأظهروا له الولاء. وعمل أورخان على توسيع الدولة، فكان طبيعيا أن ينشأ بينه وبين البيزنطيين صراعٌ عنيف كان من نتيجته استيلاؤه على مدينتيّ إزميد ونيقية، وفي عام ١٣٣٧م، شنّ هجوما على القسطنطينية عاصمة البيزنطيين نفسها، ولكنه أخفق في احتلالها، ومع ذلك فقد أوقعت هذه الغزوة الرعب في قلب إمبراطور الروم "أندرونيقوس الثالث"، فسعى إلى التحالف معه وزوجه ابنته، ولكن هذا الزواج لم يحل بين العثمانيين وبين الاندفاع إلى الأمام، وتثبيت أقدامهم عام ١٣٥٧م، في شبه جزيرة غاليبولي، وهكذا اشتد الخطر العثماني على القسطنطينية من جديد، وشهد المسلمون في عهد أورخان أوّل استقرار للعثمانيين في أوروبا، وأصبحت الدولة العثمانية تمتد من أسوار أنقرة في آسيا الصغرى إلى تراقيا في البلقان، وشرع الدعاة يدعون السكان إلى اعتناق الإسلام.
وتوفي أورخان الأول في عام ١٣٦٠م، بعد أن أيّد الدولة الفتيّة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة، وتولّى بعده ابنه "مراد الله"، الملقب بمراد الأول.
أصبح العثمانيون القوة الرائدة في العالم الإسلامي. وحاولوا غزوا جنوب إيطاليا، وتمكن السلطان سليم الاول (١٥١٢-١٥٢٠ م) من فتح العراق عام ١٥١٤م، وكل
بلاد الشام و فلسطين عام ١٥١٦م، ومصر عام ١٥١٧م، ثم جزيرة العرب و الحجاز ، واخيرا انتصر على الصفويين
في معركة جالديران و استولى على أذربيجان.
وبلغت الدولة أوجها في عهد ابنه سليمان القانوني (١٥٢٠-١٥٦٦ م) الذي واصل فتوح البلقان "المجر: ١٥١٩م ثم حصار فيينا، وفتح اليمن عام ١٥٣٢م، إستولى بعدها على الساحل الصومالي من البحر الأحمر واستطاع بناء اسطول بحري لبسط سيطرته على البحر المتوسط بمساعدة خير الدين بربروسا الذي قدم ولاءه للسلطان بعد ١٥٥٢م، تم اخضاع دول المغرب الثلاث: الجزائر، وتونس ثم ليبيا حيث أخضعت طرابلس في حدود عام ١٥٥١م، فأصبحت الدولة تمتد على معظم ما يشكل اليوم العالم العربي بإستثناء وسط الجزيرة ومراكش وعُمان بإلإضافة إلى إمتدادها في وسط آسيا وجنوب شرق أوروبا.
كانت فاتحة أعمال مراد الأول احتلال مدينة أنقرة مقر إمارة القرمان، وذلك أن أميرها واسمه علاء الدين، أراد انتهاز فرصة انتقال المُلك من السلطان أورخان إلى ابنه مراد لإثارة حمية الأمراء المجاورين وتحريضهم على قتال العثمانيين ليقوضوا أركان ملكهم الآخذ في الامتداد يومًا فيومًا، فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهم مدنه، وتحالف مراد مع بعض أمراء الأناضول مقابل بعض التنازلات لصالح العثمانيين، وأجبر آخرين على التنازل له عن ممتلكاتهم، وبذلك ضمّ جزء من الممتلكات التركمانية إلى الدولة العثمانية، ثم وجّه اهتمامه نحو شبه جزيرة البلقان التي كانت في ذلك الحين مسرحًا لتناحر دائم بين مجموعة من الأمراء الثانويين، ففتح مدينة أدرنة سنة ١٣٦٢م، ونقل مركز العاصمة إليها لتكون نقطة التحرك والجهاد في أوروبا، وقد ظلت عاصمة للعثمانيين حتى فتحوا القسطنطينية في وقت لاحق، كما تم فتح عدّة مدن أخرى مثل صوفيا وسالونيك، وبذلك صارت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين من كل جهة في أوروبا، وفي ١٢ يونيو عام ١٣٨٥م، الموافق فيه ١٩ جمادى الآخرة عام ٧٩١هـ، التقت الجيوش العثمانية بالقوى الصربية، تساندهاقوى من المجر والبلغار والألبانيين، في إقليم "قوصوة"، المعروف حاليا باسم "كوسوڤو"، فدارت بين الطرفين معركة عنيفة انتصر فيها العثمانيون، إلا أن السلطان قتل في نهايتها على يد أحد الجنود الذي تظاهر بالموت.
السلطان بايزيد الأول:
تولّى عرش آل عثمان بعد مراد الأول ابنه بايزيد، وعند ذلك كانت الدولة قد اتسعت حدودها بشكل كبير، فانصرف إلى تدعيمها بكل ما يملك من وسائل، وانتزع من البيزنطينيين مدينة آلاشهر، وكانت آخر ممتلكاتهم في آسيا الصغرى، وأخضع البلغار عام 1393م إخضاعًا تاما، فجزع "سيگسموند" ملك المجر من هذا التوسع العثماني، خصوصًا بعد أن تاخمت حدود بلاده مناطق السيطرة العثمانية، فاستنجد بأوروبا الغربية، فدعا البابا "بونيفاس التاسع" إلى حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين لمنعهم من التوغل في قلب أوروبا، فلبّى الدعوة ملك المجر سالف الذكر، وعدد من أمراء فرنسا، وباڤاريا، والنمسا، وفرسان القديس يوحنا في رودس وجمهورية البندقية، وقدمت إنگلترا مساعدات عسكرية، تقابل الجيشان العثماني والأوروبي في ٢٥ سبتمبر سنة ١٣٩٦م، الموافق فيه ٢١ ذي الحجة سنة ٧٩٨هـ، ودارت بينهما رحى معركة ضارية هُزم فيها الأوروبيون وردوا على أعقابهم، حاصر بايزيد القسطنطينية مرتين متواليتين، ولكن حصونها المنيعة صمدت في وجه هجماته العنيفة، فارتد عنها خائبا، ولم ينس بايزيد وهو يوجه ضرباته الجديدة نحو الغرب، أن المغول يستعدون للانقضاض عليه من جهة الشرق، وخاصةً بعد أن ظهر فيهم رجلٌ عسكري جبّار هو تيمورلنك الشهير المتحدّر من سلالة جنكيز خان، لذلك عمل بايزيد على تعزيز مركزه في آسيا الصغرى استعدادًا للموقعة الفاصلة بينه وبين تيمورلنك. وهكذا خف الضغط العثماني على البيزنطيين، وتأخر سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين خمسين سنة ونيفًا، وفي ربيع سنة ١٤٠٢م، تقدّم تيمورلنك نحو سهل أنقرة لقتال بايزيد، فالتقى الجمعان عند "جُبق آباد" ودارت معركة طاحنة انهزم فيها العثمانيون وأُسر السلطان بايزيد وحمله المغول معهم عائدين إلى سمرقند عاصمة الدولة التيمورية، حيث عاش بقية أيامه ومات في سنة ١٤٠٣م.
عهد الفترة:
بعد موت السلطان بايزيد تجزأت الدولة إلى عدّة إمارت صغيرة كما حصل بعد سقوط الدولة السلجوقية، لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد، واستقل في هذه الفترة كل من البلغار والصرب والفلاخ، ولم يبق تابعًا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان. ومما زاد الخطر على الدولة عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم، بل كان كل منهم يدعي الأحقية لنفسه، فنشبت بينهم حروب ضارية، ولكن النصر كان آخر الأمر من نصيب محمد بن بايزيد، المُلقب بمحمد الأول أو "محمد چلبي"، الذي استطاع أن يعيد للدولة بعض ما فقدته من أملاكها في الأناضول.
التوسع وفتح القسطنطينية:
بعد محمد الأول تولّى عرش السلطنة العثمانية مراد الثاني، فاستمر بإخضاع المدن والإمارات التي استقلت عن الدولة العثمانية، وحاصر القسطنطينية، ولكنه لم يُوفق إلى احتلالها، ثم حاول أن يعيد إخضاع البلقان لسيطرته، ففتح عدّة مدائن وقلاع وحاول أن يضم إليها مدينة بلغراد لكنه فشل في اقتحامها، فكان هذا الهجوم إنذارًا جديدًا لأوروبا بالخطر العثماني، فقامت قوات مجرية - وعلى رأسها يوحنا هونياد - بالالتحام مع العثمانيين وهزمتهم هزيمة قاسية كان من نتائجها بعث الروح الصليبية في أوروبا، وإعلان النضال الديني ضد العثمانيين.
ولمّا توفي السلطان مراد الثاني ارتقى عرش العثمانيين ابنه محمد، فكان عليه بادئ الأمر أن يُخضع ثورة نشبت ضده في إمارة قرمان بآسيا الصغرى، فاستغل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر هذا الأمر، وطلب من السلطان مضاعفة الجزية التي كان والده يدفعها إلى البيزنطيين لقاء أسرهم الأمير أورخان حفيد سليمان بن بايزيد المطالب بالعرش العثماني، فاستاء السلطان محمد من هذا الطلب لما كان ينطوي عليه من تهديد بتحريض أورخان هذا على العصيان، فأمر بإلغاء الراتب المخصص له، وراح يتجهّز لحصار القسطنطينية والقضاء على هذه المدينة في أقرب فرصة ممكنة. وكان أوّل ما قام به في هذا السبيل تشييده عند أضيق نقطة من مضيق البوسفور قلعة "روملي حصار" القائمة على بعد سبعة كيلومترات من أبواب القسطنطينية، وعندئذ أرسل الإمبراطور قسطنطين بعثة من السفراء إلى السلطان محمد لتحتجّ لديه على ذلك، فلم يلقوا منه جوابًا شافيًا، بل أصرّ على البناء لما في القلعة من أهمية استراتيجية. واستنجد الإمبراطور قسطنطين بالدول الأوروبية فلم تنجده إلا بعض المدن الإيطالية، أما البابا فقد أبدى استعداده لمساعدة الإمبراطور شرط أن تتحد الكنيستان الشرقية والغربية، ووافق قسطنطين على المشروع، ولكنّ تعصّب الشعب حال دون تحقيق ذلك.
وكان السلطان قد حشد لقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مزودًا بالمدافع الكبيرة وأسطولاً ضخمًا، وبذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أن البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، لكن ما أن مضى 53 يومًا على الحصار حتى كان العثمانيون قد دخلوا المدينة بعد أن هُدمت أجزاء كبيرة من أسوارها بفعل القصف المدفعي المتكرر، واشتبكوا مع البيزنطيين في قتال عنيف جدًا دارت رحاه في الشوارع، وذهب ضحيته الإمبراطور نفسه وكثير من جنوده، حتى إذا انتصف النهار دخل محمد المدينة وأصدر أمره إلى جنوده بالكف عن القتال، بعد أن قضى على المقاومة البيزنطية ونشر راية السلامط، اتخذ السلطان محمد لقب "الفاتح" بعد فتح المدينة، وأضاف إليه لقب "قيصر الروم"، على الرغم من عدم اعتراف بطريركية القسطنطينية ولا أوروبا الغربية بهذا الأمر، ونقل مركز العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي غيّر اسمها إلى "إسلامبول"، أي مدينة الإسلام أو تخت الإسلام، وأعطى للمسيحين الآمان وحرية إقامة شعائرهم الدينية، ودعا من هاجر منهم خوفًا إلى العودة إلى بيوتهم.
سقطت الإمبراطورية البيزنطية عند فتح المدينة بعد أن استمرت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وتابع السلطان محمد فتوحاته في أوروبا خلال السنوات اللاحقة التي أعقبت سقوط القسطنطينية، فأخضع بلاد الصرب وقضى على استقلالها، وفتح بلاد المورة في جنوب اليونان، وإقليم الأفلاق وبلاد البشناق وألبانيا، وهزم البندقية ووحد الأناضول عبر قضائه على إمبراطورية طرابزون الرومية وإمارة قرمان، وقد حاول السلطان محمد أيضًا فتح إيطاليا لكن وافته المنية سنة 1481م، فانصرف العثمانيون عن هذه الجهة.
دور التوسع والقوة "١٤٥٣-١٦٨٣":
يُمكن تقسيم هذه الفترة في التاريخ العثماني إلى حقبتين مميزتين: حقبة النمو والازدهار العسكري والثقافي والحضاري والاقتصادي، وهي تمتد حتى سنة 1566م، وحقبة شهدت بأغلبها ركودًا سياسيًا وعسكريًا، وتخللتها فترات إصلاح وانتعاش، وقد دامت حتى سنة 1683م.
وفي نفس الوقت، وبنشاط أفزع الغرب، بنى العثمانيون أسطولاً آخر، في مثل ضخامة الأسطول الذي كاد أن يدمر عن آخره. وفي بحر ثمانية أشهر بعد معركة ليبنتو، كان ثمة أسطول تركي مكون من 150 سفينة يجوب البحار بحثاً عن الأسطول المسيحي الذي بلغ من سوء النظام حداً لم يجرؤ معه على الخروج من مكمنه. وشجع الجميع البندقية على استئناف الحرب، ولكن أحداً لم يمد لها يد المساعدة، ومن ثم فإنها عقدت مع السلطان (7 مارس 1573) صلحاً لم تتنازل بمقتضاه عن قبرص فحسب، بل دفعت كذلك للسلطان تعويضاً يغطي ما تكبده من نفقات في فتح الجزيرة. لقد خسر الأتراك المعركة ولكنهم كسبوا الحرب، ويبدو كيف أنهم لم يصبهم أي وهن، من العرض الجريء الذي تقدم به سوكوللي إلى البندقية (1573)،وهو أنها إذا انضمت إلى الأتراك في حربهم ضد أسبانيا ، فلسوف يساعدونها في غزو مملكة؛ بلي لتكون تعويضاً سخياً لها عن ضياع قبرص. ورفضت البندقية هذا العرض لأنه يشجع السيطرة التركية على إيطاليا والعالم المسيحي. وفي أكتوبر أحيا دون جوان مجده بالاستيلاء على تونس لحساب أسبانيا، ولكن في بحر عام واحد استطاع الأتراك بأسطول ضخم آنذاك (250 سفينة) استعادة المدينة وذبح الأسبان الذين كانوا قد استوطنوها حديثاً. وعلى سبيل الاحتياط أغاروا على سواحل صقلية. ومات سليم الثاني في 1574، ولكن ظل سوكوللي يتولى شؤون الدولة ويدير دفة الحرب.
وقد يدعو إلى حيرة الفلاسفة أن يرى المؤرخون اضمحلال الدولة العثمانية في عهد مراد الثالث (1574-1595) على حين أنه كان يحب الفلاسفة، ولكنه كان مولعاً بالنساء كذلك. وأنجب مائة وثلاثة أطفال من عدد غير كبير من الزوجات. وكانت "بافو" الزوجة ذات الحظوة لديه، وهي أمة من أسرى البندقية، أسرته بمفاتنها، وتدخلت في شؤون الدولة، واشترى نفوذها بالمال، وتقلص نفوذ سوكللي، ولما أقترح بناء مرصد ثارت ثائرة الشعب ضده في نعرة تعصب ذميم، فقتلوه (1579)،
وربما كان هذا بأمر السلطان مراد. وعمت الفوضى، وانخفضت قيمة العملة، وتمرد الانكشارية لهبوط أجورهم لأنهم يتسلمون نقداً رديئاً، وأفسدت الرشوة الموظفين، بل أن أحد الباشوات كان يفاخر بأنه رشا السلطان. وانغمس مراد في ملذاته الجنسية ومات متأثراً بالإفراط فيها.
وسيطرت "بافو" على أبنها محمد الثالث (1595-1603) قدر سيطرتها على الدولة. وبدأ حكمه بالعملية التقليدية، فقتل تسعة عشر من أخوته، إغراء وحثاً لآل بيته على أن يركنوا إلى الهدوء والمسالمة، ولكن أخصاب مراد، أو ذريته الكبيرة، جعلت من هذا السلام المنشود مشكلة عسيرة، فإن كثيراً من أبناء السلطان بقوا على قيد الحياة تحدق بهم الأخطار. وأنتشر الفساد وسادت الفوضى. وضيعت الهزيمة في الحرب مع النمسا وفارس قيمة الانتصارات التركية.
وواجه أحمد الأول خطر ظهور الشاه عباس الأول حاكماً قوياً على فارس، فقرر حشد قواته على الحدود الشرقية،ورغبة في التخفيف منها في الغرب، وأمر السلطان وكلاءه بتوقيع صلح "زتفانوروك" (1906)، وهي أول معاهدة تنازل الأتراك المزهوون بتوقيعها خارج القسطنطينية. ودفعت النمسا للسلطان مائتي ألف دوكات، ولكنها أعفيت من أية جزية بعد ذلك. وقبلت ترنسلفانيا السيادة التركية طواعية واختياراً، كذلك عقدت فارس الصلح (1611)، وأعطت تركيا مليون رطل من الحرير، تعويضاً عن الحرب. وتميز هذا العهد في جملته بالتوفيق والسلامة لولا ما شابه من استمرار الانكشارية في تمردهم. وكان السلطان أحمد رجلاً تقياً حسن النية، وبذل للجهد، ولكنه أخفق في القضاء على قتل الأخوة اخوتهم في الأسرة المالكة.
وأقترح عثمان الثاني (1617-1622) تنظيم الانكشارية والإصلاح من شأنهم، ولكنهم اعترضوا وقتلوه، وأجبروا أخاه الأبله المعتوه مصطفى الأول على اعتلاء العرش، ولكن مصطفى أوتي من رجاحة العقل ما جعله يتخلى عنه (1623) لابن أخيه مراد الرابع البالغ من العمر اثني عشر عاماً (1623-1640). واختار الانكشارية كبار الوزراء، وكانوا يذبحونهم كلما لاح لهم أنه قد آن الأوان لإحداث تغيير. واقتحموا القصر الملكي وأجبروا السلطانة قسيم على أن تفتح لهم أقبية الكنوز استرضاءً لهم. وفي 1631 عادوا إلى القصر ثانية، وتعقبوا السلطان الشاب إلى جناحه الخاص وطالبوا برؤوس سبعة عشر موظفاً. وقدم أحدهم-حافظ-نفسه للجماعة، فداء للباقين، فمزقوه إرباً، وقابلهم مراد، وهو لا يزال بعد غض الإهاب، بما بدا أنه تهديد هين لين: "إني لأرجو أن يمدني الله بعون من عنده: يا رجال الدم، يا من لا تخشون الله، ولا تستشعرون الخجل أمام رسوله،
سيحل عليكم أشد الانتقام وانتهز الفرصة الملائمة ليشكل قوة موالية له، ودبر قتل الواحد تلو الأخر من زعماء التمرد. وسحقت محاولات أخرى للثورة والعصيان، بقسوة شديدة. وفي بعض الأحيان، شارك السلطان بنفسه، مثل- بطرس الأكبر- في تنفيذ أحكام الإعدام. وقتل كل أخوته فيما خلا واحداً ظنه أبله لا يخشى منه شيء. وفي نشوة سلطته الملكية فرض عقوبة إعدام على تناول التبغ أو القهوة، والأفيون أو الخمر. وقيل أن جملة من أعدموا في عهده مائة ألف شخص، باستثناء من لقوا حتفهم في الحرب واستتب لبعض الوقت النظام الاجتماعي ونزاهة الإدارة.
ولما أحس الآن بأنه في مأمن إلى حد معقول، استأنف الحرب مع فارس؛ وقبل أن يتحداه محارب فارسي في نزال فردي، فأرداه قتيلاً، واستولى على بغداد (1638)، وجاد بصلح على نصر، ولدى عودته إلى القسطنطينية استقبله أهلوها استقبال المنتصر الظافر. ومات بعد ذلك بعام واحد متأثراً بداء النقرس الذي سبب له الإدمان على الخمر. وكان في الثامنة والعشرين من العمر.
وبعد وفاة مراد الرابع، عاد اضمحلال تركيا سيرته الأولى. فإن إبراهيم الأول نجا من موت محقق بيد أخيه، لكونه مخبولاً، أو لتظاهره بالخبل، وتجددت الفوضى والفساد في ظل حكمه الضعيف الطائش. وشن الحرب على البندقية وأرسل حملة إلى كريت . وسد البنادقة منافذ الدردنيل. وتضور أهالي القسطنطينية جوعاً. وثار الجيش وشنق السلطان. وعادت إلى ذاكرة الغرب المسيحي قصة الحرس البريتوري في روما، وانتهوا إلى أنه لم يعد ثمة مبرر لأن يرهبوا قوة الأتراك وفي بحر خمس وثلاثين سنة أخرى كان الأتراك على أبواب فيينا من جديد.
بعد سنة 1566م، أصبح الملك في أيدي سلاطين عاجزين أو غير مؤهلين. ثم منذ 1656 م أصبحت السلطة بين أيدي كبير الوزراء (وزيري أعظم) أو كبار القادة الإنكشاريين. بدأت مع هذه الفترة مرحلة الانحطاط السياسي و الثقافي. كان العثمانيون في صراع دائم مع الهبسبورغ، ملوك النمسا (حصار فيينا: 1683 م)، إلا أن مراكز القوى تغيرت، منذ 1700 م تحول وضع العثمانييين من الهجوم إلى الدفاع. تم إعادة هيكلة الدولة في عهد السلطانين سليم الثالث (1789-1807 م) ثم محمود الثاني (1808-1839 م) من بعده، رغم هذا استمر وضع الدولة في الانحلال. أعلنت التنظيمات سنة 1839 م وهي إصلاحات على الطريقة الأوروبية. أنهى السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909 م) هذه الإصلاحات بطريقة استبدادية، نتيجة لذلك استعدى السلطان عليه كل القوى الوطنية في تركيا. سنة 1922 م تم خلع آخر السلاطين محمد السادس (1918-1922 م). وأخيرا ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة نهائيا في 1924م.
عُرفت الدولة العثمانية بأسماء مختلفة في اللغة العربية، لعلّ أبرزها هو "الدولة العليّة" وهو اختصار لاسمها الرسمي "الدولة العليّة العثمانية"، كذلك كان يُطلق عليها محليًا في العديد من الدول العربية، وخصوصًا بلاد الشام ومصر، "الدولة العثمليّة"، اشتقاقًا من كلمة "عثملى - Osmanlı" التركية، التي تعني "عثماني". ومن الأسماء الأخرى التي أضيفت للأسماء العربية نقلاً من تلك الأوروبية: "الإمبراطورية العثمانية" (بالتركية: Osmanlı İmparatorluğu)، كذلك يُطلق البعض عليها تسمية "السلطنة العثمانية"، و"دولة آل عثمان".
تركت الدولة العثمانية إرثًا حضارياً غنياً في البلاد العربية وفي البلقان، إذ دخلت عدة كلمات ومصطلحات تركية إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات التي كانت شائعة في الدولة العثمانية، وامتزجت مع المعاجم اللغوية المحلية وأصبحت بمرور الزمن تشكل جُزءًا مهماً منها، ونزلت الكثير من العائلات والأُسر التُركية في البلاد العربية والأوروبية الشرقية وتمازجت مع أهلها وذابت في وسطهم بمرور الزمن، وكان انتشار الإسلام في أوروبا الشرقية إحدى النتائج الحتمية للفتوحات العثمانية في تلك البلاد.
كما ترك العثمانيون عدة آثار معمارية شهيرة في المشرق العربي والبلقان، عدا عن تركيا نفسها، كما دخلت عدَّة مأكولات ومشروبات تركية عثمانية إلى المطابخ البلقانية والعربية.
وفي المُقابل، تأثرت الثقافة التركية بالثقافتين العربية والفارسية بشكلٍ كبير خلال هذه الفترة، لدرجة أن 88% من مصطلحات اللغة التركية العثمانية كان ذو أصولٍ عربية وفارسية.
أصبح العثمانيون القوة الرائدة في العالم الإسلامي. حاولوا غزوا جنوب إيطاليا سنوات 1480/81 م. تمكن السلطان سليم الاول (1512-1520 م) من فتح العراق:1514 وكل بلاد الشام و فلسطين: 1516 م، مصر: 1517 م، ثم جزيرة العرب و الحجاز أخيراً. انتصر على الصفويين في معركة جالديران و استولى على أذربيجان. بلغت الدولة أوجها في عهد ابنه سليمان القانوني (1520-1566 م) الذي واصل فتوح البلقان (المجر: 1519 م ثم حصار فيينا)، وفتح اليمن عام 1532إستولى بعدها على الساحل الصومالي من البحر الأحمر واستطاع بناء اسطول بحري لبسط سيطرته على البحر المتوسط بمساعدة خير الدين بربروسا الذي قدم ولاءه للسلطان (بعد 1552 م تم اخضاع دول المغرب الثلاث: الجزائر، تونس ثم ليبيا حيث أخضعت طرابلس في حدود عام 1551). فأصبحت الدولة تمتد على معظم ما يشكل اليوم العالم العربي بإستثناء وسط الجزيرة ومراكش وعُمان بإلإضافة إلى إمتدادها في وسط آسيا وجنوب شرق أوروبا.
وفي نفس الوقت، وبنشاط أفزع الغرب، بنى العثمانيون أسطولاً آخر، في مثل ضخامة الأسطول الذي كاد أن يدمر عن آخره. وفي بحر ثمانية أشهر بعد معركة ليبنتو، كان ثمة أسطول تركي مكون من 150 سفينة يجوب البحار بحثاً عن الأسطول المسيحي الذي بلغ من سوء النظام حداً لم يجرؤ معه على الخروج من مكمنه. وشجع الجميع البندقية على استئناف الحرب، ولكن أحداً لم يمد لها يد المساعدة، ومن ثم فإنها عقدت مع السلطان (7 مارس 1573) صلحاً لم تتنازل بمقتضاه عن قبرص فحسب، بل دفعت كذلك للسلطان تعويضاً يغطي ما تكبده من نفقات في فتح الجزيرة. لقد خسر الأتراك المعركة ولكنهم كسبوا الحرب، ويبدو كيف أنهم لم يصبهم أي وهن، من العرض الجريء الذي تقدم به سوكوللي إلى البندقية (1573)،
وهو أنها إذا انضمت إلى الأتراك في حربهم ضد أسبانيا ، فلسوف يساعدونها في غزو مملكة؛ بلي لتكون تعويضاً سخياً لها عن ضياع قبرص. ورفضت البندقية هذا العرض لأنه يشجع السيطرة التركية على إيطاليا والعالم المسيحي. وفي أكتوبر أحيا دون جوان مجده بالاستيلاء على تونس لحساب أسبانيا، ولكن في بحر عام واحد استطاع الأتراك بأسطول ضخم آنذاك (250 سفينة) استعادة المدينة وذبح الأسبان الذين كانوا قد استوطنوها حديثاً. وعلى سبيل الاحتياط أغاروا على سواحل صقلية. ومات سليم الثاني في 1574، ولكن ظل سوكوللي يتولى شؤون الدولة ويدير دفة الحرب.
وقد يدعو إلى حيرة الفلاسفة أن يرى المؤرخون اضمحلال الدولة العثمانية في عهد مراد الثالث (1574-1595) على حين أنه كان يحب الفلاسفة، ولكنه كان مولعاً بالنساء كذلك. وأنجب مائة وثلاثة أطفال من عدد غير كبير من الزوجات. وكانت "بافو" الزوجة ذات الحظوة لديه، وهي أمة من أسرى البندقية، أسرته بمفاتنها، وتدخلت في شؤون الدولة، واشترى نفوذها بالمال، وتقلص نفوذ سوكللي، ولما أقترح بناء مرصد ثارت ثائرة الشعب ضده في نعرة تعصب ذميم، فقتلوه (1579)،
وربما كان هذا بأمر السلطان مراد. وعمت الفوضى، وانخفضت قيمة العملة، وتمرد الانكشارية لهبوط أجورهم لأنهم يتسلمون نقداً رديئاً، وأفسدت الرشوة الموظفين، بل أن أحد الباشوات كان يفاخر بأنه رشا السلطان. وانغمس مراد في ملذاته الجنسية ومات متأثراً بالإفراط فيها.
وسيطرت "بافو" على أبنها محمد الثالث (1595-1603) قدر سيطرتها على الدولة. وبدأ حكمه بالعملية التقليدية، فقتل تسعة عشر من أخوته، إغراء وحثاً لآل بيته على أن يركنوا إلى الهدوء والمسالمة، ولكن أخصاب مراد، أو ذريته الكبيرة، جعلت من هذا السلام المنشود مشكلة عسيرة، فإن كثيراً من أبناء السلطان بقوا على قيد الحياة تحدق بهم الأخطار. وأنتشر الفساد وسادت الفوضى. وضيعت الهزيمة في الحرب مع النمسا وفارس قيمة الانتصارات التركية. وواجه أحمد الأول خطر ظهور الشاه عباس الأول حاكماً قوياً على فارس، فقرر حشد قواته على الحدود الشرقية،
ورغبة في التخفيف منها في الغرب، وأمر السلطان وكلاءه بتوقيع صلح "زتفانوروك" (1906)، وهي أول معاهدة تنازل الأتراك المزهوون بتوقيعها خارج القسطنطينية. ودفعت النمسا للسلطان مائتي ألف دوكات، ولكنها أعفيت من أية جزية بعد ذلك. وقبلت ترنسلفانيا السيادة التركية طواعية واختياراً، كذلك عقدت فارس الصلح (1611)، وأعطت تركيا مليون رطل من الحرير، تعويضاً عن الحرب. وتميز هذا العهد في جملته بالتوفيق والسلامة لولا ما شابه من استمرار الانكشارية في تمردهم. وكان السلطان أحمد رجلاً تقياً حسن النية، وبذل للجهد، ولكنه أخفق في القضاء على قتل الأخوة اخوتهم في الأسرة المالكة.
وأقترح عثمان الثاني (1617-1622) تنظيم الانكشارية والإصلاح من شأنهم، ولكنهم اعترضوا وقتلوه، وأجبروا أخاه الأبله المعتوه مصطفى الأول على اعتلاء العرش، ولكن مصطفى أوتي من رجاحة العقل ما جعله يتخلى عنه (1623) لابن أخيه مراد الرابع البالغ من العمر اثني عشر عاماً (1623-1640). واختار الانكشارية كبار الوزراء، وكانوا يذبحونهم كلما لاح لهم أنه قد آن الأوان لإحداث تغيير. واقتحموا القصر الملكي وأجبروا السلطانة قسيم على أن تفتح لهم أقبية الكنوز استرضاءً لهم. وفي 1631 عادوا إلى القصر ثانية، وتعقبوا السلطان الشاب إلى جناحه الخاص وطالبوا برؤوس سبعة عشر موظفاً. وقدم أحدهم-حافظ-نفسه للجماعة، فداء للباقين، فمزقوه إرباً، وقابلهم مراد، وهو لا يزال بعد غض الإهاب، بما بدا أنه تهديد هين لين: "إني لأرجو أن يمدني الله بعون من عنده: يا رجال الدم، يا من لا تخشون الله، ولا تستشعرون الخجل أمام رسوله،
سيحل عليكم أشد الانتقام(20) "وانتهز الفرصة الملائمة ليشكل قوة موالية له، ودبر قتل الواحد تلو الأخر من زعماء التمرد. وسحقت محاولات أخرى للثورة والعصيان، بقسوة شديدة. وفي بعض الأحيان، شارك السلطان بنفسه، مثل- بطرس الأكبر- في تنفيذ أحكام الإعدام. وقتل كل أخوته فيما خلا واحداً ظنه أبله لا يخشى منه شيء. وفي نشوة سلطته الملكية فرض عقوبة إعدام على تناول التبغ أو القهوة، والأفيون أو الخمر. وقيل أن جملة من أعدموا في عهده مائة ألف شخص، باستثناء من لقوا حتفهم في الحرب(21). واستتب لبعض الوقت النظام الاجتماعي ونزاهة الإدارة.
ولما أحس الآن بأنه في مأمن إلى حد معقول، استأنف الحرب مع فارس؛ وقبل أن يتحداه محارب فارسي في نزال فردي، فأرداه قتيلاً، واستولى على بغداد (1638)، وجاد بصلح على نصر، ولدى عودته إلى القسطنطينية استقبله أهلوها استقبال المنتصر الظافر. ومات بعد ذلك بعام واحد متأثراً بداء النقرس الذي سبب له الإدمان على الخمر. وكان في الثامنة والعشرين من العمر.
وبعد وفاة مراد الرابع، عاد اضمحلال تركيا سيرته الأولى. فإن إبراهيم الأول نجا من موت محقق بيد أخيه، لكونه مخبولاً، أو لتظاهره بالخبل، وتجددت الفوضى والفساد في ظل حكمه الضعيف الطائش. وشن الحرب على البندقية وأرسل حملة إلى كريت . وسد البنادقة منافذ الدردنيل. وتضور أهالي القسطنطينية جوعاً. وثار الجيش وشنق السلطان. وعادت إلى ذاكرة الغرب المسيحي قصة الحرس البريتوري في روما، وانتهوا إلى أنه لم يعد ثمة مبرر لأن يرهبوا قوة الأتراك وفي بحر خمس وثلاثين سنة أخرى كان الأتراك على أبواب فيينا من جديد.
بعد سنة 1566 م أصبح الملك في أيدي سلاطين عاجزين أو غير مؤهلين. ثم منذ 1656 م أصبحت السلطة بين أيدي كبير الوزراء (وزيري أعظم) أو كبار القادة الإنكشاريين. بدأت مع هذه الفترة مرحلة الانحطاط السياسي و الثقافي. كان العثمانيون في صراع دائم مع الهبسبورغ، ملوك النمسا (حصار فيينا: 1683 م)، إلا أن مراكز القوى تغيرت، منذ 1700 م تحول وضع العثمانييين من الهجوم إلى الدفاع. تم إعادة هيكلة الدولة في عهد السلطانين سليم الثالث (1789-1807 م) ثم محمود الثاني (1808-1839 م) من بعده، رغم هذا استمر وضع الدولة في الانحلال. أعلنت التنظيمات سنة 1839 م وهي إصلاحات على الطريقة الأوروبية. أنهى السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909 م) هذه الإصلاحات بطريقة استبدادية، نتيجة لذلك استعدى السلطان عليه كل القوى الوطنية في تركيا. سنة 1922 م تم خلع آخر السلاطين محمد السادس (1918-1922 م). وأخيرا ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة نهائيا في 1924 م.
الظهور (1299–1453)
النمو (1453–1683)
قمة المجد (1683–1827)
الضعف (1828–1908)
الإنهيار (1908–1922)
نظام الحكم:
اتبع العثمانيون تنظيمًا بسيطًا لدولتهم، حيث ابتكروا جهازين إداريين للحكم: جهاز إداري مركزي وجهاز إداري محلي، وكان تُتبع هرميّة معينة في كل جهاز منها، وكان السلطان بوصفه حاكم البلاد، وخليفة المسلمين، يقبع على قمّة هذا الهرم. أخذ العثمانيون بالكثير من العادات العربية والفارسية والبيزنطية في تنظيمهم للأجهزة الإدارية، ودمجوا معها بعض العادات التركية القديمة، وصهروها كلها في بوتقة واحدة مميزة، مما جعل الدولة العثمانية تظهر بمظهر الوريث الشرعي لجميع تلك الحضارات التي سبقتها.
الجهاز الإداري المركزي:
كان الجهاز الإداري المركزي يتكوّن من السلطان وحاشيته، وهؤلاء جميعًا يُعرفون باسم "آل عثمان"، ويُعاونهم في الحكم ما يُعرف باسم "الديوان"، وهو جهاز إداري مضمّن يتكوّن من الصدر الأعظم وأفراد الطبقة الحاكمة. ومنصب الصدر الأعظم هو أعلى مناصب الدولة بعد منصب السلطان، وكان من يتبوأ هذا المنصب يلعب دور رئيس الوزراء ورئيس الديوان، ومن صلاحياته تعيين قادة الجيش وجميع أصحاب المناصب الإدارية المركزية أو الإقليمية. أما الطبقة الحاكمة فكان يُشار إلى أفرادها باسم "العساكرة" أو "العسكر"، ومفردها "عسكري"، وهي تشمل: الدفتردار، أي الشخص المُكلف بالشؤون المالية وحساب موارد الدولة ومصاريفها؛ الكاهية باشا، وهو الموظف العسكري الذي يتكلف بتسير الشؤون العسكرية للدولة؛ الشاويش باشا (بالتركية العثمانية: چاويش پاشا؛ نقحرة: تشاويش پاشا) وهو موظف ينفذ الأحكام القضائية التي يصدرها القضاة؛ رئيس الكتّأب، وشيخ الإسلام وطبقة العلماء. كان السلطان العثماني هو صاحب القرار النهائي الفاصل في أغلب الأحيان، وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى عهد السلطان مراد الرابع، عندما ازداد نفوذ الديوان وأخذ السلاطين لا يشاركون في جلساته أكثر فأكثر. جرت العادة منذ العهد العثماني على إطلاق تسمية "الباب العالي" على الحكومة العثمانية، وهي تسمية تعني في الأصل قصر السلطان، ومع مرور الوقت أصبح المقصود بالباب العالي: أعلى سلطة تتجسد في قوة السلطان المستمدة من قوة جيشه.
تعتبر السلالة العثمانية أطول سلالات الأسر الإسلامية الحاكمة عمرا، وكان رأس الأسرة هو السلطان، وهو في نفس الوقت رأس الدولة، وخليفة المسلمين، وكان يُشار إليه باسم "پاديشاه" بمعنى "ملك الملوك" أو "سيّد الملوك"، وكان يحكم الدولة حكمًا مطلقًا، ولا يقيده إلا حدود الشريعة الإسلامية، حيث كان شيخ الإسلام يتمتع بسلطة عزل السلطان لو ثبت أنه تخطى حدود الشريعة أو أصيب بعاهة عقلية أو جسدية تمنعه من ممارسة عمله والاهتمام بشؤون العباد على أكمل وجه، وقد كان السلاطين الأوائل الذين بلغت الدولة في عهدهم ذروة مجدها وقوتها ملتزمين بحدود الشريعة عادةً، أما بعد عهد السلطان سليمان القانوني، أصيب البلاط العثماني بفساد شديد استمرّ حتى تولّي السلطان مصطفى الرابع العرش، فقد حكم خلال هذه المدة ثمانية عشر سلطانًا، لم يكن أحد منهم على مستوى يؤهله لأن يمارس الحكم إلاّ بواسطة وزراء كانوا أحيانًا مثالاً للفساد، وأحيانًا أخرى مشفقين على الدولة من الانهيار، كما كانوا يقومون بإصلاحات تعطي الدولة حيوية تمكنها من إدارة أمورها لسنوات عدّة، كانت الأسرة العثمانية أسرة تركية من الناحية العرقية والإرثية فقط، وفي واقع الأمر أصبح البيت العثماني في ذروة اتساع الدولة مزيجًا ثقافيًّا واسعًا للحضارات والثقافات المجاورة، الأمر الذي جعل العنصر التركي للدولة يفقد هيمنته مع مرور الزمن، وأصبحت الدولة ككل يُشار إليها في أوروبا باسم "المشرق، كان لكل سلطان ختم خاص به يُصنع في بداية عهده ويستخدمه لختم الفرمانات والرسائل التي يبعثها للملوك والأباطرة وغيرهم من الحكّام، ويُعرف هذا الختم باسم "الطغراء"، وقد تطوّر شكل الطغراء منذ أن ابتدعها السلطان أورخان الأول حتى عهد السلطان سليمان القانوني، عندما اتخذت شكلاً ثابتًا استخدمه باقي السلاطين الذين تلوه.
كان لقب "الوزير" هو المستخدم خلال المراحل الأولى للدولة العثمانية. وأوّل من لُقب بالصدر الأعظم كان الوزير "خليل خير الدين باشا" وزير السلطان مراد الأول. والغرض من اللقب الجديد هو تمييز حامل الختم السلطاني من الوزراء الآخرين. ثم بدأ اللقب الجديد "صدر أعظم" يحل محل اللقب القديم "وزير أعظم" تدريجيًا وإن كانا لهما نفس المعنى والرتبة. وخلال التاريخ العثماني ظهرت ألقاب جديدة للصدر الأعظم مثل الصدر العالي والوكيل المطلق وصاحب الدولة والسردار الأكرم والسردار الأعظم والذات العالي. وقد برزت أهمية الصدور العظام بعد عهد السلطان سليمان القانوني، عندما أصبحوا يتولون شؤون الدولة، ومن أشهرهم آل "كوبرولي"، وبعد فترة التنظيمات في القرن التاسع عشر، أصبح من يتولّى منصب الصدر الأعظم يقوم بدور أكبر مما هو في منصب رئيس الوزراء في الملكيات الغربية. وبعد إقرار دستور عام 1908م، أصبح الصدر الأعظم مسؤولاً عن أعماله أمام البرلمان.
الجهاز الإداري المحلي:
نظرًا لاتساع رقعة الدولة فقد قسمها العثمانيون إلى ولايات ، ثم قسموا كل ولاية إلى مقاطعات، وكلّ سنجق إلى نواح، وكل ناحية إلى أحياء وحارات. وكان حاكم الولاية، أو الوالي ولقبه "الباشا"، تبعًا للحكومة المركزية في الآستانة، في حين كان حاكم السنجق، أو "الحكمدار" ولقبه "البك"، تابعًا للباشا، ويساعده ديوان و"صوباشي"، أي ضابط أمن؛ وكان حاكم الناحية، ولقبه "الآغا" تابعًا للبك، وكان على رئس كل حي أو حارة "مختار" تابع للآغا، وكان الوالي يُعيد شراء منصبه من الصدر الأعظم كل سنة، فكان طبيعيًا أن يعمد إلى ابتزاز ما دُفع من الضرائب الباهظة التي كان يفرضها على الرعيّة ومن الموظفين الخاضعين لسلطته، كما كان طبيعيًا أن يعمد هؤلاء الموظفون بدورهم إلى ابتزاز المال بمختلف الوسائل من أفراد الشعب، وعُرف هذا النظام، أي جباية الضرائب السنوية عن مساحة من الأرض من أهلها من الفلاحين، باسم "نظام الالتزام"، كان والي الشام متميزًا عن غيره من الولاة بإضافة منصب إمارة الحج عليه، وكانت مهمة "أمير الحج" الإشراف على قافلة الحج الشامي التي تضم حجاجًا من أنحاء بلاد الشام والأناضول والبلقان، وتأمين ما يلزم لسلامة الحجاج، من ماء وجنود ودليل خبير بالطريق أو أكثر من دليل، وغير ذلك من الأمور. كان عدد ولايات الدولة يتفاوت بين الحين والآخر، وفق ما تكسبه أو تفقده من البلدان، أو بسبب دمج بعض الولايات ببعض.
البرلمان والدستور العثماني:
ترجع بداية الحياة الدستورية في الدولة العثمانية إلى عام 1808م، وهو العام الذي تبوأ فيه السلطان محمود الثاني عرش السلطنة، ففي بداية عهده دعا الصدر الأعظم مصطفى باشا البيرقدار إلى عقد مجلس استشاري في الآستانة وعرض فيه برنامجًا إصلاحيًا أبرز ما جاء فيه إلزام حكّام الولايات بالولاء للسلطان، وتعهّد الدولة المركزية بالطاعة التامة لقراراته، وحدد الاتفاق العلاقات بين حكّام الولايات بعضهم ببعض، وبالتالي بين موظفي الدولة على أساس ضمانات متبادلة قائمة على العدالة.
وكان يمكن لهذا الاتفاق أن يكون أساس دستور حقيقي للدولة العثمانية، إلا أنه لم يعش طويلاً، فالسلطان لم يوقع عليه إلا مرغمًا، حين رأى نفسه مضطرًا لتصديقه وإصداره، بفعل أنه عدّه انتقاصًا من سلطته، لذا قرر إلغاءه عند سنوح أوّل فرصة، واستطاع ذلك عندما قُتل البيرقدار، وخلال السنوات التالية أخضع السلطان الولايات العثمانية لحكومة مركزية قوية.
صدرت في عهد السلطان عبد المجيد الأول قوانين إصلاحية عدّة ذات طابع شبه دستوري، مثل منشور الكلخانة ومنشور التنظيمات الخيرية، وينظر بعض المؤرخين إلى هذين المنشورين على أنهما وثيقتان دستوريتان لاشتمالهما على مبادئ عامّة في الحكم والإدارة، لكنهما في واقع الأمر لا يُعدان قانونين دستوريين بفعل أنهما لم يقيدا حرية السلطان أو يحدا من صلاحياته، كما أنهما لم يُنشئا المجالس النيابية أو القضائية، في عام 1856م أنشأ السلطان عبد المجيد مجلسًا عُرف باسم "مجلس أعيان الولايات" يتكون من عضوين عن كل ولاية، يختارات من بين أصحاب المعرفة والاحترام، هدفه إبداء الرأي بالإصلاحات الواجب إدخالها على أجهزة الدولة، على أن يُبدي كل منهم وجهة نظهره في ذلك. كانت هذه التجربة الأولى من نوعها في تاريخ الحياة النيابية في الدولة العثمانية، إلا أنها باءت بالفشل لعدم قدرة المندوبين على استيعاب المشكلة برمتها، كما داخلهم الشك في نوايا الحكومة المركزية، و أنشأ السلطان عبد العزيز الأول في عام 1876م "مجلس الدولة" أو "شوري دولت"، الذي تميز بطابع شبه دستوري، وشملت اختصاصاته إعداد مشاريع القوانين للدولة وإبداء الرأي للوزارات بالمسائل الخاصة بتطبيق القوانين، كما كان بمثابة محكمة ينظر بالقضايا الإدارية ويُحاكم الموظفين المتهمين بالانحراف، و قد وُصف هذا المجلس بأنه بداية انطلاق لمجلس النواب.
اشتهر السلطان عبد الحميد الثاني أنه أوّل سلطان دستوري في تاريخ الدولة العثمانية، فقد أعلن دستورًا للبلاد بعد أن أقنعه زعيم تكتل "اتفاق الحمية" مدحت باشا أن الإقدام على هذا العمل يجعل الدول الأوروبية تتوقف عن تدخلها في الشؤون الداخلية للدولة لا سيما وإنه سيُصلح وضع الرعايا المسيحيين في البلقان والشام. تشكلت لجنة عامة برئاسة مدحت باشا، ولجان فرعية لدرس مشروع الدستور قبل إصداره، وانتهت بعد مداولات طويلة إلى وضع هيكل للنظام البرلماني يقوم على مجلسين: مجلس شيوخ، يُطلق عليه "مجلس الأعيان"، ومجلس نواب يُطلق عليه "مجلس المبعوثان".
كان الدستور العثماني ينص على تقييد السلطة المطلقة للسلطان وإنه حامي الدين الإسلامي، يتمتع شخصه بحرمة قدسية، وهو غير مسؤول عن تصرفاته أمام أحد، وحدد الدولة وعاصمتها والحقوق العامّة للرعايا، وانتقص الدستور كثيرًا من سلطات الصدر الأعظم التنفيذية وأعطاها للسلطان. جعل الدستور للسلطان الحق في تعيين أعضاء مجلس الأعيان مدى الحياة، على أن لا تقل سن العضو عن أربعين عامًا، أما مجلس المبعوثان فكان أعضاؤه يعينوا عن طريق إجراء انتخابات عامّة، وكان المجلسان يجتمعان كل سنة في دورة عاديّة، تبدأ في الأول من شهر نوفمبر وتنتهي في آخر شهر فبراير، ويحق للسلطان تقديم موعد الدورة أو اختصار مدتها. كانت الحكومة هي التي تقترح التشريعات الجديدة على البرلمان، أما اقتراحات أعضاء المجلسين فيجب أن تُعرض على السلطان، فإذا وافق عليها يُحيلها إلى البرلمان عن طريق مجلس الدولة الذي يوافق عليها، وينتهي الأمر بصدور موافقة السلطان، أما إذا رفض أحد المجلسين مشروع قانون فلا يعيد النظر فيه في دورة انعقاده نفسها.
اللغة:-
كانت هناك ثلاث لغات كبرى سائدة في الدولة العثمانية: التركية، وهي اللغة الأم للأتراك، وقد تكلّم بها أغلبية سكان الأناضول وتراقيا، بالإضافة إلى المسلمين البلقانيين عدا الألبان وسكان البوسنة، وبطبيعة الحال انتشرت اللغة التركية بين الأشخاص المثقفين من غير الأتراك وبشكل خاص أولئك الموظفين في الدوائر الحكومية، كذلك كان للغة الفارسية انتشار محدود بين المثقفين العثمانيين، أما ثاني لغة من حيث الأهمية فكانت اللغة العربية، وقد تكلمها سكان المناطق العربية الخاضعة للحكم العثماني، بالإضافة إلى الأتراك وباقي الشعوب المسلمة في الدولة، كونها لغة الدين الإسلامي، غير أن من أتقنها وتكلمها بطلاقة كما العرب كان الطبقة المثقفة أيضًا، كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للدولة العثمانية، وتختلف اللغة التركية العثمانية عن اللغة التركية الحديثة، من ناحية أنها كانت أكثر تأثرًا باللغتين العربية والفارسية، واقتبست منهما مصطلحات عديدة اختفت اليوم من المعجم التركي.
انتشرت بعض اللغات الأخرى على نطاق ضيّق في الدولة العثمانية، ومنها: الكردية، والصربية، واليونانية، والمجرية، والأرمنية، والبلغارية، كذلك كان لبعض الطوائف لغاتها الطقسية الخاصة، مثل السريانية والقبطية للمسيحيين الشوام والمصريين، والعبرية بالنسبة لليهود. اقتبس العرب، وبشكل خاص الشوام والمصريين عدد من الكلمات التركية وأصبحت تشكل جزءًا من لغة التواصل اليومية في بلادهم، ومن هذه الكلمات: بصمة، وأصلها "باصماق" وتشير إلى وطأة القدم؛ "بلكي" وتعني التوقع والاحتمال؛ "بويا" أصلها "بوياغ" وتعني الطلاء؛ "جمرك" وتعني الضريبة التي تؤخذ على البضائع، "دوغري" أصلها "دوغرو" وتعني المستقيم، وتُستخدم أيضًا للإشارة في السير إلى الأمام؛ "أوضة" أصلها "أودة" وتعني غرفة؛ "برطمان" أي إناء زجاجي، وكلمات أخرى كثيرة.
الثقافة والمجتمع:
يكاد المؤرخون يُجمعون على أنه لم تكن ثمّة حضارة عثمانية بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت الحضارة العثمانية مجرّد مزيج من حضارات الأمم التي سبقتها وحضارات الأمم التي عاصرتهم. فبرز فيها أثر العرب وأثر الفرس من ناحية، وأثر البيزنطيين وأثر الأوروبيين من ناحية ثانية، والواقع أن خير ما يُمكن أن يُقال في هذا الموضوع هو أن الحضارة العثمانية امتدادٌ للحضارة والخلافة العربية الإسلامية التي بلغت أوجها في العصر العبّاسي، ولكنه امتداد طبعه العثمانيون بطابعهم التركي وطعّموه بكثير من المؤثرات البيزنطية أولاً، ثم بكثير من المؤثرات الأوروبية بعد ذلك.
التعليم:
يرى بعض الكتاب الغربيين أن الدولة العثمانية أهملت تنشيط التعليم المدني، خلال مراحل تاريخها، إلا في نطاق المدارس التابعة للهيئة الدينية الإسلامية، وقامت إلى جانب هذه المدارس، مدارس الملل بإشراف الطوائف الدينية غير الإسلامية أو البعثات التبشيرية، ويرى هؤلاء الكتاب أن التعليم لم يتطور في الدولة العثمانية إلاّ في بداية عهد السلطان عبد المجيد الأول وباقي السلاطين الذين تلوه، وأبرزهم عبد الحميد الثاني. بينما يرى عدد من المؤرخين الأوروبين والعرب والأتراك أنه منذ نشوء الدولة العثمانية فقد اهتمت بالتعليم وأنشأت المدارس وكانت المدارس هي من تمد الدولة بالموظفين، فقد كان السلاطين العثمانيون دائمًا ما يطورون نظام التعليم ويقدمون الدعم له، وقد اهتمت الدولة العثمانية بتدريس العلوم الدينية والدنيوية وأنشأت الجامعات لتدريس هذه العلوم، فقد تم إنشاء أول جامعة للطب في الدولة العثمانية أواخر القرن الرابع عشر في عهد السلطان يلدرم بايزيد في مدينة بورصة التي كانت عاصمة الدولة العثمانية وقتها. ثم أُنشئ المجمع الطبي في القرن الخامس عشر. كما أُنشأت العديد من الكليات منذ عهد محمد الفاتح حتى سقوط الدولة العثمانية، وكانت هذه الكليات تدرس مختلف العلوم فإحدى هذه الكليات كانت تدرس العلوم الدينية وعلوم الفضاء والرياضيات والاجتماع والحقوق والآداب والطب.
وفي عهد الخليفة عبد الحميد الثاني تطور نظام التعليم حيث أنشأ العديد من المدارس المتوسطة والعليا والمعاهد الفنية لتخريج الشباب العثماني، وإعداده لتولّي المناصب الحكومية والنهوض بالدولة. واهتم السلطان اهتمامًا بالغًا بالمدرسة التي أنشأت عام 1859م على عهد السلطان عبد المجيد الأول، فأعاد تنظيمها وفق خطة علمية، وتحديثها بمناهج دراسية جديدة، وفتح أبوابها للطلاب القائمين في العاصمة، والوافدين من مختلف الأقاليم العثمانية، حتى غدت مركزًا ثقافيًا هامًا. وأنشأ السلطان بدءًا من عام 1878م، المدرسة السلطانية للشؤون المالية، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنية، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، كما أنشأ مدرسة طب جديدة في عام 1898م.
وتوّج السلطان عبد الحميد الثاني جهوده في الحقل التعليمي بتطوير "مدرسة إستانبول الكبرى"، التي أنشئت في عهد السلطان محمد الفاتح، وأضحت جامعة إسطنبول، وضمّت، في أول أمرها، أربع كليّات هي العلوم الدينية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الأدبية، وعُدّت مدرستا الحقوق والطب كليتين ملحقتين بالجامعة، وتطلبت المدارس الملكية، أو المدنية، بدورها إنشاء عدد من دور المعلمين لتخريج معلمين أكفاء يتولون التدريس فيها، وكانت أول دار للمعلمين في الدولة أنشئت، في عام 1848م، على عهد السلطان عبد المجيد الأول، وأضحى عددها في عام 1908م، ثمان وثلاثين دارًا منتشرة في العاصمة وحواضر الولايات والسنجقيات، وأنشأ السلطان عددًا كبيرًا من المدارس الرشدية التي كانت بمثابة مدارس متوسطة. ومن الجامعات الكبرى التي تأسست خارج الحدود التركية في أواخر العهد العثماني: الكليّة السورية الإنجيلية التي أصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت، سنة 1866م، وجامعة القديس يوسف، سنة 1874م، وجامعة القاهرة، سنة 1908م، وغيرها. يفيد بعض الأدباء والمؤرخين الذين عاصروا أواخر العهد العثماني أن اليوم الدراسي كان يبدأ بتلاوة سورة الفاتحة، عند المسلمين، والمزمور 23، عند المسيحيين، ثم يتلوها عبارة "عاش مولانا السلطان" (بالتركية العثمانية: پاديشاه متشوق يا شاه) ثم تتلوها ترتيلة تركية.
الدين:
نتيجة اتساع رقعة الدولة العثمانية، فقد ضمت الكثير من أتباع المذاهب والديانات المختلفة، سواء أكانت إبراهيمية أم غير إبراهيمية، فقد عاشت في رُبوعها عدة ديانات مميزة لم توجد في مناطق أخرى من العالم، وفي مقدمتها: اليزيدية (الإيزيدية) والصابئية المندائية والسامرية. سمح العثمانيون لليهود والمسيحيين أن يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية تحت حماية الدولة، وفقًا لما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وبهذا فإن أهل الكتاب من غير المسلمين كانوا يعتبرون رعايا عثمانيين لكن دون أن يُطبق عليهم قانون الدولة، أي أحكام الشريعة الإسلامية، وفرض العثمانيون، كجميع الدول الإسلامية من قبلهم، الجزية على الرعايا غير المسلمين مقابل إعفائهم من الخدمة في الجيش.
الإسلام:
كان الإسلام هو الدين الرسمي في الدولة العثمانية، وقد اعتنقته الأغلبية الساحقة من السكان في الولايات الآسيوية والأفريقية، وفي بعض أنحاء البلقان، وفقًا للمذهب السني، وكان هناك أقلية شيعية تنتشر بشكل رئيسي في بعض مناطق العراق كالنجف وبعض أنحاء الشام، كذلك كان هناك نسبة قليلة من الدروز والعلويين في لبنان وسوريا وفلسطين والأناضول. اتبع عدد من المسلمين العثمانيين الأتراك، بما فيهم كثير من السلاطين، عدّة طرق صوفية، ومنها الطريقة البكداشية والماتردية والباطنية والمولوية. ظهرت خلال العهد العثماني حركة عقائدية صوفية كبرى ذات أبعاد سياسية واقتصادية، وانطوت على محاولة التقريب بين الإسلام والمسيحية واليهودية، تلك كانت حركة الشيخ "بدر الدين"، وهي تتصدر أهم الحركات الدينية والاجتماعية على مدار التاريخ العثماني، كون الداعي لها قال ببعض الأفكار التي تناقض المعتقدات الإسلامية، ومنها إنكار الجنة والنار ويوم القيامة والملائكة والشياطين، وقصّر الشهادة على قسمها الأول، أي "لا إله إلا الله" وحذف نصفها الثاني، أي "محمد رسول الله"، ودعا إلى الزهد المطلق والمهدي المنتظر. وقد تمكنت هذه الدعوة من جذب الكثير من المسيحيين وقليل من اليهود وعدد من المسلمين، وقد استطاع العثمانيون إيقاف هذه الدعوة وتحجيمها، لكن اتباعها استمروا، وأصبحوا يعرفون باسم "العلاهيين".
المسيحية:
كانت المسيحية الأرثوذكسية أكبر الملل غير الإسلامية في الدولة العثمانية، وقد انقسم أتباعها إلى عدّة كنائس أبرزها كنيسة الروم الأرثوذكس، والأرمن، والأقباط، والبلغار، والصرب، والسريان، وكانت هذه الكنائس تُطبق قانون جستنيان في مسائل الأحوال الشخصية. خصّ العثمانيون المسيحيين الأرثوذكس بعدد من الامتيازات في مجاليّ السياسة والتجارة، وكانت هذه في بعض الأحيان بسبب ولاء الأرثوذكسيين للدولة العثمانية.
اتبع بعض المسيحيين الخاضعين للدولة العثمانية المذهب الكاثوليكي، لكنهم كانوا يشكلون أقلية طيلة عهد الدولة، وقد انتمت معظم الكنائس الكاثوليكية إلى الفرع الشرقي، وأبرزها: الكنيسة المارونية والكنيسة الآشورية والروم الكاثوليك وغيرها. كانت علاقة الدولة العثمانية ببعض الكنائس علاقة سلمية أغلب عهدها، فكان الروم الأرثوذكس يذعنون عن طيب خاطر للسلطان طالما لم يتعرض لهم أحد في دينهم، وسمح السلاطين، وأولهم محمد الفاتح، سمحوا للأرمن ببناء كنائسهم داخل حدود الآستانة، فيما كان البيزنطيين يعتقدون أن الأرمن هراطقة ولم يسمحوا لهم بممارسة شعائرهم داخل جدران القسطنطينية، وأعطى العثمانيون للموارنة امتيازًا ميزهم عن سائر الطوائف المسيحية، وهو عدم وجوب طلب البطريرك والمطارنة الفرمان من الباب العالي، كي تعترف الحكومة بسلطتهم على رعاياهم، وأعاد العثمانيون إنشاء الكنيسة البلغارية الأرثوذكسية، بعد أن كانت قد حُلّت سابقًا ودُمجت في جسم كنيسة الروم الأرثوذكس.
اليهودية:
سكن اليهود مناطق عديدة من الدولة العثمانية، وقد ازداد عدد اليهود السفارديون بعد سقوط الأندلس، عندما وفدت جموع منهم إلى جانب الأندلسيين المسلمين إلى أنحاء مختلفة من الدولة، وبشكل خاص الآستانة وسالونيك وبعض مدن الشام ومصر، وكان رئيس الطوائف اليهودية يُعرف باسم "حاخام باشي" أو "باشا الحاخامات". يقول بعض المؤرخين أن اليهود العثمانيين لعبوا دورًا في إسقاط الدولة العثمانية عن طريق تعاونهم مع اليهود الأوروبيين والداعين للصهيونية، كما وساهموا في تشويه صورة الدولة لاحقًا،ويوضح آخرون أن سياسة الدولة العثمانية كانت تقوم على تشجيع اليهود على الهجرة إلى ممتلكاتها، غير أنها كانت تخشى أن يقيم اليهود دولة لهم في منطقة حول القدس، فيؤدي ذلك إلى فصم بلاد الشام منها، والاستئثار بالمدينة المقدسة.
البنية الإجتماعية:
اتسم العثمانيون بعدم اتباعهم لسياسة هضم القوميات، الأمر الذي ساعد على نمو العصبات الحاكمة وحفظ للقوميات طابعها القومي، فقد وضع السلاطين نظامًا خاصًا عُرف بنظام "الملل"، قسموا بمقتضاه الشعوب الخاضعة لهم، ووضعوا كل ملّة أو عصبية تحت حكم زعيم لها هو المسؤول عنها أمام السلطان، يقول بعض المؤرخين أن هذه السياسة هي أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت لضعف الدولة وانفصال بعض القوميات عنها في وقت لاحق، بينما يقول آخرون أن التعددية هي ما كان وراء دوام استمرار الدولة لسنين طويلة، منح السلاطين بعض الأقليات العرقية والدينية حق الإقامة في ربوع الدولة العثمانية وأعطوهم الأمان وسمحوا لهم بممارسة شعائرهم الدينية بحريّة لقاء الجزية، كما فعل السلطان محمد الفاتح مع اليهود والروم الفنارية عندما دعاهم ليسكنوا القسطنطينية.
طُبعت بعض المدن الكبرى في الدولة العثمانية بطابع ثقافي واجتماعي مختلط كما القسطنطينية، كونها كانت إما مرافئ تجارية مهمة أو عواصم ولايات، أو ذات أهمية دينية، ومن هذه المدن التي ما زالت تحتفظ بطابع عثماني: سراييڤو، سكوبيه، سالونيك، دمشق، بغداد، بيروت، مكة، القدس، والجزائر، فلا يزال المرء يُشاهد في هذه المدن عدد من المعالم المعمارية العثمانية الأثرية والحديثة المبنية على هذا الطراز، كما أن العديد من سكان هذه المدن نزح إليها من مناطق أخرى خلال العهد العثماني.
القضاء والقانون:
كانت الشريعة الإسلامية هي أساس القانون العثماني. وفي بادئ الأمر كان "قاضي العسكر" هو رأس الهيئة القضائية. ثم عُيّن إلى جانبه قاضيان آخران أحدهما لأفريقيا والثاني لأوروبا. ولم تكن سلطة قضاة الجيش هؤلاء مقصورة على الشؤون العسكرية، بل تعدتها إلى نواحي القانون بأكمله. وكان هؤلاء القضاة هم الذين يُعينون الموظفين القضائيين والقضاة ونوابهم. وكان يتلو قضاة الجيش في الترتيب "العلماء الكبار" وهم قضاة العاصمة، ثم "العلماء الصغار" الذين كانوا يتولون القضاء في عشر مدن ثانوية من مدن الولايات كبغداد وصوفيا، أما قضاة الدرجة الثانية وما دونها فكانوا ينقسمون إلى طبقات ثلاث وهم: المفتشون، والقضاة، ونواب القضاة. وكانت الهيئات القضائية كلها تخضع لمفتيّ الآستانة الذي كان يحمل لقب "شيخ الإسلام". وكان شيخ الإسلام هذا يُفتي في ما يُرفع إليه من المسائل القضائية، وكثيرًا ما كان السلاطين يستصدرون منه الفتوى كلّما أقدموا على اتخاذ قرار مصيري يتصل بشؤون السلم أو الحرب.
اعتمد السلطان عبد المجيد الأول تدوين القانون المدني العثماني كخطوة من خطواته التنظيمية، فجعل كبار الفقهاء والعلماء يجمعون التشريعات في ما أصبح يُعرف بمجلة الأحكام العدلية. تتكون هذه المجلة من ستة عشر كتاب أولها كتاب البيوع وآخرها كتاب القضاء، وكل كتاب يتناول موضوع ومكون من أبواب، وكل باب مكون من فصول،صدرت المجلة سنة 1882م، وهي تعتبر أول تدوين للفقة الإسلامي في المجال المدني في إطار بنود قانونية، على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان. وهي القاعدة التي بُني عليها القانون المدني في أغلب الدول العربية مثل العراق ومصر والأردن.
الجيش:
لم يكن للإمارة العثمانية عند قيامها جيش نظامي تعتمد عليه، وقد وقع عبء الفتوح الأولى على عاتق المجاهدين والباحثين عن الغنائم وجماعات الدراويش، وكانوا كلهم من الفرسان، فيجتمعون في مكان محدد عن طريق المنادين ثم يخرجون إلى الحرب، فإذا انتهت تفرّقت جموعهم وعاد كل واحد إلى عمله الأساسي، وقد اعتمد العثمانيون منذ أول ظهورهم في التاريخ، نظامًا إقطاعيًا كان الهدف منه تأمين مصدر ثابت لإمداد جيوشهم بالجند، يغنيهم عن إنشاء جيش نظامي دائم ويُوفر لهم نفقاته، وكان أساس هذا النظام هو إقطاع أو منح المحاربين بعض المقاطعات الزراعية مقابل التزامهم بأن يكونوا دومًا على استعداد للسير إلى الحرب متى يُدعون إليها، مع أعداد من الفرسان من أتباعهم تتناسب ومساحة الإقطاعة الممنوحة لكل منهم، وأن يجهزوهم بكل ما يحتاجون إليه من خيل وسلاح.
الجيش النظامي الأول:
يُعتبر السلطان أورخان الأول مؤسس الجيش العثماني الحقيقي، فقد أدرك من خلال معاركه حاجته إلى جيش من المشاة يستطيع فتح القلاع واقتحام الأسوار المنيعة، ولا يعرف أفراده حرفة سوى القتال، فأنشأ أول الأمر جيشًا نظاميًا مؤلفًا من فرق متعددة، كل فرقة منقسمة إلى وحدات تتألف من عشرة أنفار، ومئة نفر، وألف نفر، ثم اختار ألفًا من أسرى الحروب، وأغلبهم من صغار السن، بين السابعة والعاشرة، وضمّ إليهم الأولاد المسيحيين المشردين والأيتام الذين توفي آباؤهم أو أمهاتهم خلال الغزوات والمعارك، ثم صهر الجميع في بوتقة واحدة، وأنشأهم على الدين الإسلامي وعلى التعلق بشخصه والإخلاص له وللدين والوطن، فكان هؤلاء هم نواة جيش الإنكشارية (بالتركية العثمانية: يکيچرى؛ أي الجيش الحديث، كان الإنكشارية لا يعرفون حرفة ولا عمل إلا القتال والحرب، وتألّف الجيش الإنكشاري من ثلاث فرق مختلفة هي: السكمان والجماعة والفرقة، وكان رئيسه الأعلى يُعرف باسم "آغا الإنكشارية". تكاثر عدد الإنكشارية مع الزمن فبلغ في بعض الأحوال ستين ألفًا، وجميع المؤرخين متفقون على إطراء روح النظام التي تميّز بها هؤلاء الجنود في العصر الذهبي للدولة، فلم يكن عندهم مكان للخمر أو قمار أو غير ذلك من الآفات التي عرفتها جيوش أوروبا في تلك العهود، ولكن الفساد ما لبث أن دبّ إلى هذا الجيش مع الزمن، فاعتاد الإنكشارية أن يتمردوا ويطالبوا بالهبات السخية كلما ارتقى العرش سلطان جديد. وقد شكلوا في العهود المتأخرة عقبة كانت تحول دون الإصلاح والتجديد، فأبادهم السلطان محمود الثاني عن بكرة أبيهم وألغى جميع أزيائهم وألقابهم، أنشأ العثمانيون إلى جانب جيش المشاة جيشًا من الفرسان عُرف باسم "الفرسان السواري" أو سپاهی، ويُعرفهم معظم الكتّاب العرب باسم "الفرسان السيباه"، وقد لعب هؤلاء دورًا كبيرًا في تقدم الفتوح عبر أوروبا، لكنهم أصيبوا بالفساد كما الإنكشارية في أواخر عهدهم، واشتركوا معهم في نفس المصير، عُني العثمانيون بسلاح المدفعية عناية عظمى، وأنشأوا فرقة خاصة في الجيش هي فرقة المدفعية أو "الطوبجيّة". وكانت المدفعية تتقدم الجيش عند الهجوم، في حين كان الإنكشارية يرافقون طليعة الجيش.
الجيش النظامي الثاني:
بعد أن قضى السلطان محمود الثاني على الإنكشارية، أقدم على إلغاء جميع الفرق العسكرية غير المنتظمة، وأضحى الجيش كله مؤلفًا من جنود منتظمين مسلحين بالأسلحة الحديثة وصل تعدادهم بحلول عام 1826م إلى اثني عشر ألف جندي وارتفع هذا العدد إلى خمسة وسبعين ألفًا بحلول عام 1828م، أطلق السلطان على الجيش الجديد اسم "العساكر المنصورة المحمدية"، واستدعى ضباطًا ومهندسين فرنسيين وألمانًا لتدريب أفراده وفق النموذج الأوروبي. وأسس السلطان أكاديمية عسكرية في عام 1834م، وأرسل بعض خريجيها إلى العواصم الأوروبية لاستكمال دراساتهم العليا، استمر الجيش العثماني موجودًا بصفة رسمية حتى قيام الجمهورية التركية، عندما أصبحت جميع القوات العثمانية إلى جانب قوّات مصطفى كمال تُشكل القوات المسلحة التركية. وكان للجيش العُثماني الثاني نشيدًا خاصًا كما كان حال مُعظم جيوش العالم آنذاك.
الجيش البحري "الأسطول":
أنشأ العثمانيون أسطولاً بحريًا كبيرًا ساعدهم في كثير من فتوحاتهم البرية والبحرية على السواء. ولعلّ الفضل في تعزيز الأسطول العثماني يعود إلى السلطان محمد الفاتح أولاً، ولمّا تولّى العرش السلطان سليم الأول واصل تعزيز هذا السلاح، ثم جاء سليمان القانوني فزاد عدد سفنه فبلغت ثلاثمئة، وكان الأسطول العثماني يتألّف من دوارع ثقيلة وطرّادات خفيفة، وكان مزودًا بمدفعية قوية. ولكن الدولة أهملت الأسطول، في أواخر القرن السادس عشر، فتضاءل عدد قطعه، واقتصر نشاطه على خفر السواحل تقريبًا، وفي عهد الإصلاحات والتنظيمات حاول السلطان محمود الثاني النهوض بالبحرية فبنى سفينة "المحمودية" التي كانت طيلة سنوات أكبر سفينة حربية في العالم، وحاول السلطان عبد العزيز الأول إحياء البحرية العثمانية من جديد وزيادة قطعها، فبنى أسطولاً كان الأكبر في العالم بعد أساطيل بريطانيا وفرنسا، واستحصل من بريطانيا على أوّل غواصة حربية من نوعها،لكن على الرغم من كل ذلك، اعتقد السلطان بأن الأسطول العثماني غير مؤهل ليواجه نظيره الروسي في معركة مباشرة، فأمر بإبقاء السفن داخل مضيق القرن الذهبي، فحُبست طيلة 30 سنة، أسست جمعية الاتحاد والترقي، بعد أن استلمت الحكم في البلاد، "جمعية البحرية العثمانية" الهادفة لشراء سفن حربية جديدة بغية تطوير الأسطول العثماني.
السلاح الجوي:
تأسس سلاح الجو العثماني في شهر حزيران/يونيو من سنة 1909م، وبهذا فهو يُعتبر من أقدم أسلحة الجو في العالم، وقد تلقّى الطيارون العثمانيون تدريبهم في ألمانيا إجمالاً، وقاتلوا على جبهات عديدة أثناء الحرب العالمية الأولى: من جليقة غربًا إلى القوقاز شرقًا، واليمن جنوبًا. في عام 1912م ،افتُتحت أول مدرسة للطيران في الدولة العثمانية، وبدأ الجيش العثماني بتعليم وتدريب ضباطه الطيران لأول مرة. ومع إنشاء هذه المدرسة زاد الاهتمام بهذا المجال وزاد عدد الموظفين العاملين فيه في فترة قصيرة.
تعليقات
إرسال تعليق